فصل: من لطائف التستري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.إشكال وجوابه:

قال الفخر:
في الآية إشكال، وهو أنه كيف يليق بالرسول القاطع بصحة وعد الله ووعيده أن يقول على سبيل الاستبعاد {متى نَصْرُ الله}.
والجواب عنه من وجوه أحدها: أن كونه رسولًا لا يمنع من أن يتأذى من كيد الأعداء، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97] وقال تعالى: {لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ أَن لا يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] وقال تعالى: {حتى إِذَا استيئس الرسل وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ} [يوسف: 110] وعلى هذا فإذا ضاق قلبه وقلت حيلته، وكان قد سمع من الله تعالى أنه ينصره إلا أنه ما عين له الوقت في ذلك، قال عند ضيق قلبه: {متى نَصْرُ الله} حتى إنه إن علم قرب الوقت زال همه وغمه وطاب قلبه، والذي يدل على صحة ذلك أنه قال في الجواب: {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} فلما كان الجواب بذكر القرب دل على أن السؤال كان واقعًا عن القرب، ولو كان السؤال وقع عن أنه هل يوجد النصر أم لا؟ لما كان هذا الجواب مطابقًا لذلك السؤال، وهذا هو الجواب المعتمد.
والجواب الثاني: أنه تعالى أخبر عن الرسول والذين آمنوا أنهم قالوا قولًا ثم ذكر كلامين أحدهما: {متى نَصْرُ الله} والثاني: {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} فوجب إسناد كل واحد من هذين الكلامين إلى واحد من ذينك المذكورين: فالذين آمنوا قالوا: {متى نَصْرُ الله} والرسول صلى الله عليه وسلم قال: {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} قالوا ولهذا نظير من القرآن والشعر، أما القرآن فقوله: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73] والمعنى: لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار، وأما من الشعر فقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبًاويابسا ** لدي وكرها العناب والحشف البالي

فالتشبيه بالعناب للرطب وبالحشف البالي لليابس، فهذا جواب ذكره قوم وهو متكلف جدًا. اهـ.
وقد استبعد الثعالبى القول الثانى كما فعل الفخر فقال:
وقالتْ طائفةٌ: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، والتقديرُ: حتى يقول الذين آمنوا: متى نَصْرُ اللَّهِ، فيقولَ الرسولُ: ألا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قريبٌ، فقدم الرسولَ في الرتبة؛ لمكانته، ثم قدم قول المؤمنين؛ لأنه المتقدِّم في الزمان.
وهذا تحكُّم، وحمل الكلام على وجهه غيرُ متعذِّر، ويحتملُ أن يكون: {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} إِخبارًا من اللَّه تعالى مؤتنفًا بعد تمام ذكْرِ القَوْل. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

خلق الله الجنة وحفَّها بالمصاعب، وخلق النار وحفَّها بالشهوات والرغائب، فَمنْ احتشم ركوب الأهوال بقي عن إدراك الآمال. ثم إن الحق سبحانه ابتلى الأولين بفنونٍ من مقاساة الشدائد، وكلُّ من أُلحِقَ بهم من خلف الأولياء أدخلهم في سِلْكِهِمْ، وأدرجهم في غمارهم، فمن ظنَّ غير ذلك فَسَرَابٌ ظَنَّه ماءً، وحكم لم يحصل على ما ظَنه تأويلًا. ولقد مضت سُنَّة الله سبحانه مع الأولياء أنهم لا يُنيخُونَ بعقوة الظفر إلا بعد إشرافهم على عرصات اليأس، فحين طال بهم التَرَقُّبُ صَادَفَهم اللطفُ بغتةً وتحقق لهم المُبْتَغَى فجأة. قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ}. اهـ.

.من لطائف التستري في الآية:

قوله: {وَزُلْزِلُواْ} [214] أي أرادوا به وخوفوا به وحذروا مكر الله عزَّ وجلَّ. وسئل عن قوله: {حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} [214] أكان قولهم استبطاء للنصر؟ قال سهل: لا، ولكن لما أيسوا من تدبيرهم قالوا: {متى نَصْرُ الله} [214] فلما علم الله تعالى من تبريهم من حولهم وقوتهم وتدبيرهم لأنفسهم وإظهارهم الافتقار إليه، وأن لا حيلة لهم دونه أجابهم بقوله: {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} [214] قال سهل: البلاء والعافية من الله عزَّ وجلَّ، والأمر والنهي منه، والعصمة والتوفيق منه، والثواب والعقاب منه، والأعمال منسوبة إلى بني آدم، فمن عمل خيرًا وجب عليه الشكر ليستوجب به المزيد، ومن عمل شرًا وجب عليه الاستغفار ليستوجب به الغفران. والبلوى من الله على وجهين: بلوى رحمة، وبلوى عقوبة، فبلوى الرحمة: يبعث صاحبه على إظهار فقره وفاقته إلى الله عزَّ وجلَّ وترك التدبير، وبلوى العقوبة: يبعث صاحبه على اختيار منه وتدبيره. فسئل سهل: الصبر على العافية أشد أم على البلاء؟ فقال: طلب السلامة في الأمن أشد من طلب السلامة في الخوف. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم}.
قال ابن عصفور في مقربة والآمدي في شرح الجزولية: لَمْ لنفي الماضي المتصل بزمن الحال ومثل ذلك {وعصى آدَمُ رَبَّهُ فغوى} ولم يندم، وعصى إبليس ربه ولمّا يندم لأن نفي الندم عن آدم كان ومضى وانقطع كوقوع الندم منه بعد ذلك، ونفيه عن إبليس متصل بزمن الحال.
قال ابن عرفة: وعادتهم يتعقبونه بوجيهن:
الأول: نسبة العصيان لآدم عليه السلام فإنه وإن كان ورد في القرآن لكنّه لا ينبغي أن يتكلم المخلوق على جهة المثال فإنه من إساءة الأدب على الأنبياء.
الثاني: إن نفي النّدم عنه إما قبل المعصية أو بعدها، والأقسام كلها باطلة لوقوع النّدم منه إثر المعصية. قال الله تعالى: {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} فعقب الأكل بدت لهما السوءات، فوقع الندم والندم حين العصيان غير متصور فأحرى قبله.
وقال القرطبي: لَمَّا هنا بمعنى لم لنفي الماضي المنقطع لأن ذلك كان في غزوة أحد وهي متقدمة على هذه الآية.
ورده ابن عرفة بأنّه إنّما يلزم ذلك لو علّقه في الآية بالعلم، وهو أنما علّقه بالحسبان.
قلت: ونقله بعض الطلبة بلفظ لا يحتاج إلى هذا بل هي على بابها لأن حسابهم أنهم يدخلون الجنة حالة كونهم لم يأتهم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ وهذا الحسبان لم ينقطع وما زال المؤمنون يظنون أنهم يدخلون الجنة من غير بأس ولا مشقة تنالهم إلى حين نزول هذه الآية، ونيلهم البأس في هذه الغزوة لا يرفع ظنّهم ذلك.
قال ابن عرفة: والبأَسَاءُ راجع لفقد المال، وَالضّرّاءُ للنقص في البدن والزلزال في النفس.
قوله تعالى: {حتى يَقُولَ الرسول}.
قرأ نافع، بالرفع.
قال ابن عطية: كأنه اقترن بها تسبيب، فحتى حرف ابتداء يرفع الفعل.
ابن عطية: ظاهره أيضا إذا كان ما قبلها سببا لما بعدها، فالرفع مطلقا وليس كذلك. بل لابد من زيادة كونه ماضيا أو حالا، وأما إن كان الفعل مستقبلا فالنصب ليس إلا، وكذلك جعله الزمخشري حكاية حال ماضية.
قال أبو حيان: وحتى على النصب للغاية بمعنى: إلى أن، أو للتعليل بمعنى كي. قال: والغاية أظهر لأن {الضراء} والزلزال ليسا معللين بقول الرّسول والمؤمنين.
قال ابن عرفة: إن اعتبرنا {الزلزال} من حيث نسبته إليهم فليس بعلة، لأنهم لا يتزلزلون قصدا لأن يقول الرّسول والمؤمنون هذه المقالة، وإن اعتبرناه من حيث نسبته إلى الحق سبحانه وتعالى إذ هو الفاعل المختار في الحقيقة فهو علة في قول الرسول والمؤمنين؛ ذلك لأن الله تعالى زلزلهم ليقول الرسول والمؤمنون هذه المقالة. وأبو حيان لما رأى الفعل وهو {زُلْزلُوا} مبنيا للمفعول اعتبر نسبته إليه.
قال ابن عطية: عن طائفة: وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره: حتى يَقُولَ الَّذينَ آمَنُوا مَتَى نَصْرُ الله، ويقول الرّسول أَلاَ إنّ نَصْرَ الله قَريبٌ. قال ابن عرفة: لا حاجة إلى هذا التقديم والتأخير بل هو لف ونشر مخالف جعل فيه أول القولين للقائل الثاني لكونه يليه.
وقوله: {مَعَهُ} يحتمل أن يتعلق ب {آمَنُواْ} أو ب {يَقُول} فإن تعلق ب {آمَنُواْ} فيكون من جمع القول دون قائله مثل: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} فكل فريق دعا إلى دينه وإن تعلق بيقول فيكون من جمع القائلين وأقوالهم فيكون الرسول قال المقالتين والمؤمنون كذلك قالوا المقالتين. اهـ.

.قال السعدي:

يخبر تبارك وتعالى أنه لابد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة كما فعل بمن قبلهم، فهي سنته الجارية، التي لا تتغير ولا تتبدل، أن من قام بدينه وشرعه، لابد أن يبتليه، فإن صبر على أمر الله، ولم يبال بالمكاره الواقفة في سبيله، فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها، ومن السيادة آلتها.
ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله، بأن صدته المكاره عما هو بصدده، وثنته المحن عن مقصده، فهو الكاذب في دعوى الإيمان، فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني، ومجرد الدعاوى، حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه.
فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} أي: الفقر {وَالضَّرَّاءُ} أي: الأمراض في أبدانهم {وَزُلْزِلُوا} بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل، والنفي، وأخذ الأموال، وقتل الأحبة، وأنواع المضار حتى وصلت بهم الحال، وآل بهم الزلزال، إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به.
ولكن لشدة الأمر وضيقه قال: {الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}.
فلما كان الفرج عند الشدة، وكلما ضاق الأمر اتسع، قال تعالى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن.
فكلما اشتدت عليه وصعبت، إذا صابر وثابر على ما هو عليه انقلبت المحنة في حقه منحة، والمشقات راحات، وأعقبه ذلك، الانتصار على الأعداء وشفاء ما في قلبه من الداء، وهذه الآية نظير قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.
وقوله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} فعند الامتحان، يكرم المرء أو يهان. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم}.
أي أظننتم أنكم تدخلون الجنة بدون ابتلاءات تحدث لكم؟ إن الحق سبحانه ينفي هذا الظن ويقول: ليس الأمر كذلك، بل لابد من تحمل تبعات الإيمان، فلو كان الإيمان بالقول لكان الأمر سهلا، لكن الذي يصعب الإيمان هو العمل، أي حمل النفس على منهج الإيمان. لقد استكبر بعض من الذين عاصروا محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: لا إله إلا الله لأنهم فهموا مطلوبها؛ لأن الأمر لو اقتصر على مجرد كلمة تقال بلا رصيد من عمل يؤديها، لكان أسهل عليهم أن يقولوها، لكنهم كانوا لا يقولون إلا الكلمة بحقها، ولذلك أيقنوا تماما أنهم لو قالوا: لا إله إلا اله لانتهت كل معتقداتهم السابقة، لكنهم لم يقولوها؛ لأنهم أبوا وامتنعوا عن القيام بحقها وأداء مطلوبها.
إن الحق يقول: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء} فما العلاقة بين هذه الآية وما سبق من الآيات؟ لقد كان الحديث عن بني إسرائيل الذين حسبوا أنهم يدخلون الجنة بدون أن يبتلوا، وصارت لهم أهواء يحرفون بها المنهج. أما أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليهم أن يستعدوا للابتلاء، وأن يعرفوا كيف يتحملون الصعاب. ونحن نعرف في النحو أن هناك أدوات نفي وجزم. ومن أدوات النفي لم ولما فعندما نقول: لميحضر زيد فهذا حديث في الماضي، ومن الجائز أن يحضر الآن. ولكن إذا قلت: لما يحضر زيد فالنفي مستمر حتى الآن، أي أنه لم يأتي حتى ساعة الكلام لكن حضوره ومجيئه متوقع. ولذلك يقول الحق: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} من الآية [4 سورة الحجرات].
وعندما سمع الأعراب ذلك قالوا: نحمد الله، فمازال هناك أمل أن نؤمن. لقد أراد الله أن يكون الأعراب صادقين مع أنفسهم، وقد نزلت هذه الآية كما يقول بعض المفسرين في قوم من بني أسد، وجاءوا إلى المدينة في سنة جدب، وأعلنوا الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكانوا يطلبون الصدقة، ويحاولون أن يمنوا على الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم لم يقاتلوه كما فعل غيرهم، فجاءت هذه الآية لتوضح أن الإيمان درجة أرقى من إظهار الإسلام. لكن ذلك لا يعني أنهم منافقون، ولذلك يوضح القرآن الكريم أن إظهار الإسلام لا يعني الإيمان؛ لأن الإيمان عملية قلبية. لقد أعلنوا الخضوع لله، وأرادوا أن يقوموا بأعمال المسلمين نفسها لكن ليس هذا هو كل الإيمان.
وهم قالوا: آمنا فقال الحق لهم: لا لم تؤمنوا وكونوا صادقين مع أنفسكم فالإيمان عملية قلبية، ولا يقال إنك آمنت؛ لأنها مسألة في قلبك، ولكن قل أسلمت، أي خضعت وفعلت مثلما يفعل المؤمنون، فهل فعلت ذلك عن إيمان أو غير إيمان. إن ذلك هو موضوع آخر. هنا تقول الآية: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم} أي لا يمكن أن تدخلوا الجنة إلا إذا جاءكم من الابتلاء مثل من سبقكم من الأمم ولابد أن تفتنوا وأن تمحصوا ببأساء وضراء، ومن يثبت بعد ذلك فهو يستحق أن يدخل الجنة، فلا تظنوا أنكم أمة متميزة عن غيركم في أمر الاختبار، فأنتم لن تدخلوا الجنة بلا ابتلاء، بل على العكس سيكون لكم الابتلاء على قدر النعماء.
أنتم ستأخذون مكانة عالية في الأمم ولذلك لابد أن يكون ابتلاؤكم على قدر مكانتكم، فإن كنتم ذوي مكانة عالية وستحملون الرسالة الخاتمة وتنساحون في الدنيا فلابد أن يكون ابتلاؤكم على قدر عظمة مسئوليتكم ومهمتكم. {ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا} إن قول الله: {ولما} يفيد بأن ما حدث للذين من قبلهم من ابتلاء عليهم سيقع على المؤمنين مثله.
وعندما نتأمل قوله الحق: {وزلزلوا} فأنت تكتشف خاصية فريدة في اللغة العربية، هذه الخاصية هي تعبير الصوت عن واقعية الحركة، فكلمة {زلزلوا} أصلها زلزلة، وهذه الكلمة لها مقطعان هما زل، زل. وزل: أي سقط عن مكانه، أو وقع من مكانه، والثانية لها المعنى نفسه أيضًا، أي وقع من مكانه، فالكلمة تعطينا معنى الوقوع المتكرر: وقوع أول، ووقوع ثانٍ، والوقع الثاني ليس امتدادًا للوقوع الأول؛ ولكنه في اتجاه معاكس، فلو كانت في اتجاه واحد لجاءت رتيبة، إن الزلة الثانية تأتي عكس الزلة الأولى في الاتجاه، فكأنها سقوط جهة اليمين مرة، وجهة الشمال مرة أخرى. ومثل ذلك الخلخلة أي حركة في اتجاهين معاكسين خل الأولى جهة اليمين، وخل الثانية جهة اليسار، وبهذا تستمر الخلخلة.
وهكذا الزلزلة تحمل داخلها تغير الاتجاه الذي يسمى في الحركة بالقصور الذاتي. والمثال على ذلك هو ما يحدث للإنسان عندما يكون راكبًا سيارة، وبعد ذلك يأتي قائد السيارة فيعوقها بالكابح الفرامل بقوة، عندئذ يندفع الراكب للأمام مرة، ثم للخلف مرة أخرى، وربما تكسر زجاج السيارة الأمامي حسب قوة الاندفاع؛ ما الذي تسبب في هذا الاندفاع؟ إن السبب هو أن جسم الراكب كان مهيأ لأن يسير للأمام؛ والسائق أوقف السيارة والراكب لازال مهيأ للسير للأمام، فهو يرتج، وقد يصطدم بأجزاء السيارة الداخلية عند وقوفها فجأة. وعملية الزلزلة مثل ذلك تمامًا، ففيها يصاب الشيء بالارتجاج للأمام والخلف، أو لليمين واليسار، وفي أي جهتين متعاكستين.
و{زلزلوا} يعني أصابتهم الفاجعة الكبرى، الملهية، المتكررة، وهي لا تتكرر على نمط واحد، إنما يتعدد تكرارها، فمرة يأخذها الإيمان، ثم تأخذها المصائب والأحداث، وتتكرر المسألة حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه: {متى نصر الله}؟ ويأتي بعده القول: {ألا إن نصر الله قريب} فهل يتساءلون أولًا، ثم يثوبون إلى رشدهم ويردون على أنفسهم {ألا أن نصر الله قريب} أم أن ذلك إيضاح بأن المسألة تتأرجح بين {متى نصر الله} وبين {ألا إن نصر الله قريب}؟.
لقد بلغ الموقف في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاختيار والابتلاء إلى القمة، ومع ذلك واصل الرسول صلى الله عليه وسلم والذين معه الاستمساك بالإيمان. لقد مستهم البأساء والضراء وزلزلوا، أي أصابتهم رجفة عنيفة هزتهم، حتى وصل الأمر من أثر هذه الهزة أن {يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}. إن مجيء الأسلوب بهذا الشكل {متى نصر الله} يعني استبطاء مجيء النصر أولا، ثم التبشير من بعد ذلك في قوله الحق: {ألا نصر الله قريب}. ولم يكن ذلك للشك والارتياب فيه. وهذا الاستبطاء، ثم التبشير كان من ضمن الزلزلة الكبيرة، فقد اختلطت الأفكار: أناس يقولون: {متى نصر الله} فإذا بصوت آخر من المعركة يرد عليهم قائلا: {ألا إن نصر الله قريب}.
وسياق الآية يقتضي أن الذين قالوا: {متى نصر الله} هم الصحابة، وأن الذين قال: {ألا إن نصر الله قريب} هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ينتقل الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك إلى قضية أخرى، هذه القضية شاعت في هذه الصورة وهي ظاهرة سؤال المؤمنين عن الأشياء، وهي ظاهرة إيمانية صحية، وكان في استطاعة المؤمنين ألا يسألوا عن أشياء لم يأتي فيها تكليف إيماني خوفا من أن يكون في الإجابة عنها تقييد للحركة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» أخرجه الإمام مسلم والنسائى وابن ماجه والإمام احمد في مسنده عن ابى هريرة. ورغم ذلك كانوا يسألون عن أدق تفاصيل الحياة، وكانت هذه الظاهرة تؤكد أنهم عشقوا التكليف من الله؛ فهم يريدون أن يبنوا كل تصرفاتهم بناءً إسلاميًا، ويريدون أن يسألوا عن حكم الإسلام في كل عمل ليعملوا على أساسه.
يقول الحق سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)}. اهـ.